ثقافة وفن

     رسومات التشكيلي مصطفى فقير احتفاء لا متناهي باللون والمعنى

العين الإخبارية_ عبد العزيز التيجاني

      ما أن تتجاوز قدماك عتبة إقامة الفنان التشكيلي “مصطفى فقير” حتى تخطفك جاذبية شريط من اللوحات المصفوفة بدقة وعناية على جانبي الدرج المؤدي إلى الكوخ، وكأنها رسومات ونقوش مداخل الكهوف القديمة، ليرتقي بك عبر المسلك الحلزوني إلى محراب الفنان ومعبده الذي يحتضن شعائره اليومية.

 غرفة معلقة في الهواء تشرق عليها الشمس وتغرب في هدوء ومنأى عن صخب وتشويش الاهتمامات اليومية الرتيبة. بها يعتكف ويتجدد نشاطه وحيويته بحماس وارتياح، مستأنسا بنفائس وتحف الكوخ التي تلهمه و تطربه.

للكوخ سحره وبهاؤه، وجاذبية لا تقاوم، نابعة من هدوئه وأناقة تأثيث فضائه بتجاور حميمي للوحات زاهية يأخذ جمالها بالقلوب والعقول، وتهيج عوالمها وتخيلاتها شهية الإبداع، التي يزيد منسوبها بفعل حفاوة وأريحية فنان جبل على تحفيز عشاق الفن والجمال، واستضافتهم بكرم وابتهاج.

    التشكيل بالنسبة ل”مصطفى فقير” اشتغال متواصل وجاد، بهدوء وتخشع. طقس يومي يشده إلى طفولته التي تلقى فيها أولى دروس عشق الألوان والرسم، بالهواء الطلق وهو يراقب بانتباه، وفضول،  ولساعات طويلة أعمال فنانين أجانب مولعين بتخليد المآثر المهجورة ورسم أطلال المباني الخربة بجوار حدائق ماجوريل.

 باكرا انقدحت بين جوانحه موهبة الإبداع وغمره الميل الفطري إلى الفن والتشكيل من خلال هذا التواصل الحسي والملاحظة المباشرة. وحين استجمع عدته ووثق من إمكانياته عقد العزم على اقتحام عالم الإبداع بعصامية وإرادة من حديد، وبكثير من العناد والتحدي. لكن أيضا بعشق وحماس، حتى صار إدمانه لأشغاله ومحاولاته التشكيلية آليته المناسبة لتفجير موهبته التواقة إلى التعبير عن إمكانياتها وآفاقها، طاقة حرة منفلتة من ضغط انشغالات وحاجيات الواقع اليومي. بل وسيلته المفضلة للمعرفة والاكتشاف والتجريب والإصغاء لنبض الأعماق.

     اللوحة عند “فقير” جهد وعناء مرغوب فيهما، وتجريب لامتناه للمواد والألوان . نشاط حر لمخيلة لا تنطلق من فكرة وتخطيط واضح المعالم، ولاحدود لحماسها الذي لا تكبحه الشروط المسبقة للتوجيهات النظرية. لأن الطموح المتجدد للفنان “فقير” لا يعبأ بردود الأفعال الجاهزة والإشارات الناصحة التي تعيق ترحاله في سراديب الحلم واللاوعي، أو تؤجل سفره إلى ينابيع الإبداع الدافقة في الأعماق. أما اللحظة التشكيلية فتنبثق في تجربته من شرارة التماس بين الفرشاة والقماش، ويتشكل معمار اللوحة، التي تبتكر هندستها الخاصة، تدريجيا وعلى مهل إلى أن تدرك اكتمالها الباذخ، الذي يشف عن جهد وطاقة صبر لا تنفد لفنان وطد نفسه على التأني والتروي في تركيبه وصنعته جمالية لوحاته المنتشية بكثافة موادها وتفاصيلها؛ لأن الإمتلاء الذي يلتحم به بعلاقة وجدانية خاصة وعصية عن التفسير، في قناعته هو الخاصية المميزة لأصالة إبداعه وعلامته الفارقة.

     كطفل يريد تجريب كل شيء، ينثر الفقير تنوعا ثريا من الألوان والظلال والأطياف والرموز والعلامات والشفرات والألغاز، في العوالم الغريبة للوحاته الساحرة بتجانس وانسجام مكوناتها، وانتظامها في نسق بهيج من العلاقات والمسارات المتشعبة والقائمة على أساس مجازي يؤالف ويخالف بين العناصر والأعضاء والأجزاء التي تتبادل  الخصائص والمواقع والأدوار، وتلتئم وتنصهر في بنية ووحدة جسد، تفيض إيحاءات وإشارات حقل تفاعلاته سيلا جارفا من المشاعر والأحاسيس والأحلام والأفكار المدهشة و اللامتناهية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى